في قلب ولاية كنتاكي الأمريكية، داخل خزائن حصينة بجوار قاعدة عسكرية، يرقد أحد أعظم الكنوز في التاريخ الحديث: الاحتياطي الذهبي للولايات المتحدة. اليوم، وبعد نصف قرن من الجمود المحاسبي، تجاوزت القيمة السوقية الحقيقية لهذا الكنز حاجز التريليون دولار لأول مرة في التاريخ، بينما لا تزال مسجلة في دفاتر الحكومة الأمريكية الرسمية بقيمة 11 مليار دولار فقط! هذه الفجوة التسعيرية المذهلة التي تزيد عن 90 ضعفاً ليست مجرد شذوذ محاسبي، بل هي قصة تكشف عن تحولات كبرى في النظام المالي العالمي وتطرح أسئلة مصيرية عن مستقبل الاقتصاد العالمي.
الفصل الأول: الواقع والرقم الرسمي – فجوة عمرها نصف قرن
قرار من عام 1973 لا يزال يحكم أكبر اقتصاد في العالم
يكمن سر هذه الفجوة الهائلة في قانون قديم يعود لعام 1973. ففي ذلك العام، حدد الكونغرس الأمريكي السعر الرسمي للأونصة من الذهب عند 42.22 دولاراً لأغراض محاسبية، وهو سعر لم يتم تحديثه أبداً منذ ذلك الحين . أما اليوم، وفي ظل موجة الصعود القوية، فقد تجاوز سعر الأونصة في السوق المفتوحة حاجز 3824 دولاراً، وهو السعر الذي رفع القيمة الحقيقية لأكبر مخزون ذهب في العالم إلى أكثر من تريليون دولار، بينما بقيت قيمته الدفترية حبيسة قرار يعود إلى نصف قرن .
الأرقام التي تتحدث عن نفسها
جدول يوضح الهوة بين القيمة السوقية والقيمة الدفترية للذهب الأمريكي:
| البند | القيمة السوقية الحقيقية | القيمة الدفترية الرسمية |
|---|---|---|
| سعر الأونصة | 3824 دولاراً | 42.22 دولاراً |
| إجمالي القيمة | أكثر من تريليون دولار | 11 مليار دولار |
| الفجوة النسبية | 100% | أقل من 1% |
الفصل الثاني: كنز فورت نوكس – حيث تختبئ الثروة الحقيقية
القلعة الأسطورية التي تحرس ثروة أمريكا
بحسب بيانات الخزانة الأمريكية، يبلغ إجمالي الذهب المحتفظ به نحو 261.5 مليون أونصة (أو ما يعادل 8,133 طناً) . هذا الكنز الهائل يحتفظ بأكثر من نصفه في خزائن عميقة بجوار قاعدة الجيش الأمريكي في فورت نوكس بولاية كنتاكي، في حين يوزع الباقي بين مستودعات في وست بوينت ودنفر وقبو تحت مقر مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) في مانهاتن .
نظريات المؤامرة تعود إلى السطح
في فبراير 2025، عادت نظريات المؤامرة إلى السطح بعد تعليقات للرئيس دونالد ترامب والملياردير إيلون ماسك، شككت في حقيقة وجود الذهب داخل فورت نوكس . وقال ترامب في ذلك الوقت: “سنذهب إلى فورت نوكس، القلعة الأسطورية، لنتأكد من أن الذهب موجود هناك. وإذا لم يكن الذهب موجوداً، فسوف نكون مستائين للغاية” . هذه التصريحات دفعت أعضاء في الكونغرس لتقديم مشروع قانون “الشفافية في احتياطيات الذهب لعام 2025″، الذي يلزم المراقب العام بإجراء تدقيق شامل لهذه الاحتياطيات .
الفصل الثالث: العوامل الدافعة – لماذا يصعد الذهب إلى القمة؟
“عاصفة كاملة” تدفع المستثمرين نحو الملاذ الآمن
يشهد الذهب هذا العام صعوداً قوياً بلغت نسبته 45% منذ بداية العام . ويعزو المحللون هذا الارتفاع إلى ما يشبه “عاصفة كاملة” من العوامل التي تدفع المستثمرين نحو الملاذ الآمن :
- أزمة سياسية في واشنطن: يواجه الرئيس دونالد ترامب شبح “إغلاق حكومي” وشيك قد يبدأ مطلع أكتوبر، مما يخلق حالة من عدم اليقين في أكبر اقتصاد في العالم .
- توقعات خفض الفائدة: تسعير الأسواق لاحتمالية بنسبة 89% لقيام مجلس الاحتياطي الفيدرالي بخفض جديد لأسعار الفائدة في أكتوبر، مما يقلل من جاذبية الدولار ويزيد من إقبال المستثمرين على الذهب .
- توترات جيوسياسية: لا تزال الصراعات العالمية تشكل دافعاً قوياً للجوء إلى الذهب كمخزن آمن للقيمة .
- تدفقات قوية إلى الصناديق المتداولة: ساهمت التدفقات إلى صناديق المؤشرات المدعومة بالذهب في دفع الأسعار إلى الارتفاع .
الفصل الرابع: ماذا لو أعادت أمريكا التقييم؟ – تأثيرات زلزالية على الاقتصاد العالمي
990 مليار دولار قد تضخ في الخزينة الأمريكية
بحسب التحليلات الاقتصادية، فإن تحديث القيمة السوقية للاحتياطيات قد يضخ نحو 990 مليار دولار إضافية إلى خزينة الدولة . هذا المبلغ الضخم يمكن أن يغطي نحو نصف العجز الكلي في الموازنة الأمريكية البالغ 1.973 تريليون دولار خلال السنة المالية المنتهية في أغسطس .
تداعيات محتملة على النظام المالي
ورغم أن تعديل أسلوب تسجيل احتياطي الذهب يبدو مغرياً في ظل قيود سقف الدين الحكومي، إلا أن الخطوة ستكون لها انعكاسات واسعة على النظام المالي، إذ ستؤدي إلى زيادة السيولة وإطالة أمد عملية تقليص ميزانية الاحتياطي الفيدرالي .
سابقة عالمية: دول سبقت أمريكا في هذه الخطوة
والولايات المتحدة لن تكون الدولة الأولى التي تسلك هذا النهج، إذ سبق أن اتخذت ألمانيا وإيطاليا وجنوب أفريقيا قراراً بإعادة تقييم احتياطياتها خلال العقود الماضية .
الفصل الخامس: لماذا التردد؟ – الأسباب الخفية وراء رفض إعادة التقييم
نفي وزير الخزانة
في وقت سابق من العام، أثارت تصريحات عابرة لوزير الخزانة سكوت بيسنت تكهنات حول احتمال إعادة تقييم احتياطيات الذهب الحكومية وفق الأسعار السوقية الحالية . لكن بيسنت سرعان ما نفى الأمر، فيما ذكرت وكالة بلومبرغ أن الفكرة ليست قيد النظر الجدي .
حماية مكانة الدولار
يرى محللون أن الحفاظ على مكانة الدولار الأمريكي كعملة احتياط عالمية هو أحد الأسباب الخفية وراء تردد Washington في إعادة التقييم. أي تحرك قد يفسر على أنه ضعف في الثقة بالنظام المالي القائم قد تكون له عواقب بعيدة المدى.
تجنب المفاضلات السياسية الصعبة
إضافة 990 مليار دولار إلى الميزانية قد يفتح الباب أمام مطالب سياسية متضاربة حول كيفية إنفاق هذه الأموال، مما قد يزيد من الاحتكاك السياسي في وقت بالفعل تشهد واشنطن استقطاباً حاداً.
الفصل السادس: مستقبل الكنز المخفي – سيناريوهات محتملة
استمرار الوضع الراهن
أكثر السيناريوهات ترجيحاً هو استمرار الوضع الراهن، حيث تحافظ الولايات المتحدة على السعر الرسمي للذهب عند 42.22 دولاراً للأونصة، بينما تستمر القيمة السوقية الحقيقية في النمو مع ارتفاع أسعار الذهب.
إعادة التقييم الجزئي
قد تلجأ واشنطن إلى حل وسط يتمثل في إعادة تقييم جزئي للذهب، حيث يتم رفع السعر الرسمي إلى مستوى وسيط بين السعر الحالي والسعر السوقي، في محاولة للتقريب بين القيمتين دون التسبب بصدمة للنظام المالي.
التحرر الكامل والتقييم بالسوق
أقل السيناريوهات ترجيحاً في المدى القريب، لكنه يظل احتمالاً قائماً على المدى البعيد، هو تحرير كامل لتسعير الذهب الحكومي وفقاً لأسعار السوق، وهو قرار سيكون له آثار زلزالية على الاقتصاد العالمي بأكمله.
خاتمة: كنز بين مطرقة الواقع وسندان السياسة
قصة الذهب الأمريكي التي تجاوزت حاجز التريليون دولار هي أكثر من مجرد قصة عن ارتفاع الأسعار، إنها قصة عن الفجوة بين الواقع الاقتصادي والأنظمة المحاسبية القديمة، عن التوتر بين الضرورات المالية والاعتبارات السياسية، وعن التحدي الذي تواجهه الولايات المتحدة في التكيف مع تحولات النظام المالي العالمي.
بينما تواصل أسعار الذهب تحطيم الأرقام القياسية، وتتصاعد التوترات الجيوسياسية، وتتزايد الضغوط المالية على موازنة واشنطن، يبقى السؤال: إلى متى ستستطيع الولايات المتحدة الحفاظ على هذا “الكنز المخفي” دون الاعتراف بقيمته الحقيقية؟ الإجابة على هذا السؤال قد تحدد ملامح النظام المالي العالمي للعقود القادمة.
